لماذا يترك الشباب وظائفهم بأعداد كبيرة

إنَّ الأرقام أكثر وضوحاً بالنسبة للعاملين الشباب: ففي سبتمبر، لم يكن ما يقرب من ربع العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عاماً يعدون جزءاً من القوة العاملة الأمريكية – أي حوالي 14 مليون أمريكي، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل، والذين لم يكونوا يعملون ولا يبحثون عن عمل.

الاستقالة
جدول المحتويات

الاستقالة الكبرى: لماذا يترك الشباب وظائفهم بأعداد كبيرة تزداد يوماً بعد يوم؟

تبدو حياة “ويتني جرين” مختلفة قليلاً هذه الأيام. تستيقظ ويتني على أصوات مدينة روما: صوت محركات الدراجات البخارية تتردد على الأحجار المرصوفة بالحصى، والثرثرة الخافتة لرواد المقاهي الذين يحتسون أكواب الإسبريسو في الصباح الباكر. بعدها تذهب ويتني إلى دروس اللغة الإيطالية في فترة الظهيرة، وتأكل أطباقاً من جيليه الفستق والمعكرونة المصنوعة يدوياً، وتشاهد السياح يتجمعون حول نافورة “تريفي” وساحة “بيزا نافونا”. 

إنَّها تُدرِّب نفسها على العزف على الأورغ، وعلى إنشاء موقع على شبكة الإنترنت لوظيفة أحلامها. وهي بعيدة كل البعد عن حياتها السابقة كمعالجة للصحة العقلية المجتمعية للشباب في سان فرانسيسكو؛ الوظيفة التي استقالت منها في يونيو الماضي للانتقال إلى إيطاليا مع صديقتها.

ويتني هي واحدة من ملايين الأمريكيين الذين تركوا وظائفهم التقليدية هذا العام؛ هؤلاء الذين اختاروا عدم التقيد بالعمل في وظائف تُلزمهم بتسجيل أوقات وصولهم صباحاً وأوقات مغادرتهم مساءً. هذه هي أعلى استقالة جماعية شهدتها الولايات المتحدة منذ عام 2019 – في فترة ما قبل الوباء – والأعداد ما تزال في ازدياد؛ حيث استقال 3.9 مليون شخص من عملهم في شهر يونيو. ثم في يوليو، استقال 3.9 مليون موظف، وفي أغسطس، 4.3 مليون. 

إنَّ الأرقام أكثر وضوحاً بالنسبة للعاملين الشباب: ففي سبتمبر، لم يكن ما يقرب من ربع العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عاماً يعدون جزءاً من القوة العاملة الأمريكية – أي حوالي 14 مليون أمريكي، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل، والذين لم يكونوا يعملون ولا يبحثون عن عمل.

بالنسبة للبعض، السبب هو الاحتراق الوظيفي. وبالنسبة للآخرين، كان الوقت مناسباً لإعادة التركيز على المشاريع الجانبية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه ضغوطات الوباء بالتلاشي. وبالنسبة للكثيرين، لا سيما في قطاع الخدمات الذي يهيمن عليه شبَّانٌ من الجيل “زد”، أصبحت المعاملة السيئة والأجور المنخفضة لا تطاق. تمثل ويتني جزءاً واحداً من ذلك: إذ تبلغ من العمر 31 عاماً، وتحمل درجة الماجستير. لقد قررت التوقف عن كسب المال بغية أخذ إجازة فرضتها على نفسها لكي تعيش من مدخراتها قبل أن تعمل بصورة مستقلة يوماً ما. 

في الوقت نفسه، يوجد ما يقدر بنحو 10.4 مليون وظيفة شاغرة في الولايات المتحدة وحدها، حيث أنَّ هذا النزوح – الذي أُطلق عليه مصطلح “الاستقالة الكبرى” – يوفر للعاملين الشباب الوقت للاستشفاء من جراح الإرهاق النفسي الذي تسبب به الوباء وظروف العمل التي لا يمكن تحملها، والتي صاحبتها تغييرات جذرية في أسلوب الحياة.

“هذه ثورة، وليست استقالة”، هذا ما قالته إيفوما إزيماكو، 23 عاماً، والمقيمة في واشنطن العاصمة. كانت إزيماكو نادلة وعاملة في مجال الضيافة، وقد سئمت من الزبائن سيئي المزاج والأجور المتدنية في أثناء عملها في آخر وظيفة خدمية لها في مارس 2020؛ لقد عملت في هذا المجال مدةَ خمس سنوات، ولكنَّها اكتفت بذلك القدر. 

تقول إيفوما إنَّه مع سوء سلوك الزبائن في أثناء الوباء، تنبَّهت هي وزملاؤها إلى الظلم الذي يتعرضون له يومياً، والمتمثل في العمل الذي يعتمد على الإكراميات (تتجلى إحدى التجارب المريعة والمتكررة الحدوث في طلب بعض الزبائن من النادلة سحب قناعها لأسفل حتى يتمكنوا من رؤية وجهها ليقرروا “مقدار الإكرامية”). 

بالنسبة لها، لم يكن المال يستحق كل هذا العناء؛ لذا استقالت بدعم من عائلتها لتعيد التركيز على نفسها، وتدرس للحصول على درجة جامعية في علم الاجتماع. هي الآن متطوعة مع منظمة “One Fair Wage”، وهي منظمة ناشطة تساعد موظفي صناعة الخدمات على تنظيم أنفسهم من أجل الحصول على معايير توظيف أفضل.

يتمتع قطاع الترفيه والضيافة بأقل متوسط عمر بالنسبة للعاملين في أي صناعة، وهو 31.8 عاماً؛ واليوم، تقول “سارو جيارامان”، رئيسة منظمة “One Fair Wage”: أبلغَ ما يقرب من نصف العاملين في صناعة الخدمات الذين شملهم الاستطلاع بأنَّهم يخططون للاستقالة في العام المقبل. 

حذرت سارو من الخلط بين المنتسبين إلى هذه الحركة وبين العاملين من ذوي الياقات البيضاء الذين يتركون وظائفهم من أجل أن يكسبوا لأنفسهم أوقاتاً من المرح والاسترخاء ريثما يعملون في وظائف أفضل، وهو الأمر الذي اصطلح على تسميته “المرح قبل العمل – funemployment”. 

تقول سارو: “ربما من بين العاملين ذوي الياقات البيضاء أشخاص يستقيلون بهدوء، لكنَّ العاملين في القطاع الخدمي ينتسبون إلى منظمات. ويقولون صراحة: أنا أحب هذه الصناعة، لكنَّني لن أعود للعمل فيها ما لم تكُ هناك زيادات دائمة في الأجور”. 

على الرغم من أنَّ الكثيرين لا يستطيعون ترك عملهم، كما تقول؛ فقد وضعوا حدوداً لأنفسهم، وذلك بفضل الإلهام المفاجئ التي تسبب بها التحديات التي فرضها الوباء، والتي تمثلت في الحصول على مساعدات البطالة، وتفاقم حالات عدم المساواة في الدخل، والضغوطات المستجدة في العمل بسبب نقص الموظفين.

هناك فرق بين تجربتي كل من بيتي وإيفوما، لكن كلاهما جزء من تغير مجتمعي أوسع يعطي فيه العاملون الشباب الأولوية “لقيمهم الذاتية”.

الآن، ولأول مرة في حياتهم المهنية، يتمتع الشباب بالقدرة على القيام بذلك. يقول الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد، لورانس كاتز: إنَّ العاملين من أمثال جرين، والذين كانت لديهم وظائف برواتب جيدة قُبيل انتشار الوباء، يتمتعون بوضع مالي أفضل بعد التوفير في النفقات وزيادة الادخار خلال الأشهر التسعة عشر الماضية. وبالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي وفرة الوظائف المتاحة إلى جعل العاملين يشعرون بمزيد من الثقة لترك وظائفهم. 

يحذر لورانس من أنَّ الأمر ليس متعلقاً بمغادرة العاملين الشباب لسوق العمل نهائياً، ولكن “بتجربة أشياء جديدة، والاستفادة من الفرص المتوفرة، وعدم الالتزام بالعمل في وظائفهم السابقة”.

لقد أتاح التحول إلى العمل عن بُعد مستوى من التوازن بين العمل والحياة الشخصية لم يكن ليتخيله أولئك الذين يبلغون العشرينات وأوائل الثلاثينيات من العمر؛ وهو جيل كان لنصفه والدان يعملان بدوام كامل. هذا الأمر ينطبق بصفة خاصة على جيل الألفية؛ حيث أظهر استطلاع أجرته مؤسسة جالوب عام 2020 أنَّ 74٪ منهم لا يرغبون في العودة إلى العمل المكتبي بدوام كامل، وهي أعلى نسبة في أي فئة عمرية. 

من المرجح – بشكل خاص – أن تبقى النساء من جيل الألفية في المنزل؛ نظراً لحاجتهم إلى رعاية أطفالهم؛ ففي سبتمبر لوحده، تسربت أكثر من 309000 امرأة من القوى العاملة من وظائفهنَّ. 

تقول أليسيا ساسر موديستينو، الخبيرة الاقتصادية في جامعة نورث إيسترن: “رعاية الأطفال هو أمر استخفَّ به الناس لفترة من الوقت”. حتى قبل الوباء كانت الأمر عبارة عن أزمة؛ وفي أثناء الوباء، ومع إغلاق مراكز الرعاية النهارية ونقص الموظفين لهذه الوظائف بالذات، قد لا يكون أمام النساء خيار سوى البقاء في المنزل إلى أجل غير مسمى.

بالنسبة لبعضهم، العمل عن بعد لا يفي بالغرض. عندما تركت إيما جريس موون وظيفتها في وكالة التسويق، كانت مستعدة لإخراج نفسها من العمل الذي أعاقها. تقول إيما: “اعتقدت أنَّني يمكن أن أتقدم في مساري المهني بشكل أسرع إذا كان الأمر في يدي، بدلاً من تقديم التقارير السنوية والشهرية. لقد شعرت أنَّني يمكن أن أحقق المزيد، وأن أنمو بشكل أسرع إذا فعلت ذلك بنفسي”. 

والآن، تعمل إيما – التي تبلغ من العمر 22 عاماً فقط – مستشارة مستقلة. إنَّها تكسب ثلاثة أضعاف دخلها السابق. لقد كانت خبرتها في العمل مع العلامات التجارية الموجهة للمستهلكين، هو ما أهَّلها للنمو في زمن الوباء. وهي الآن تتمتع أيضاً بأريحية في السفر وفي تخصيص ساعات عمل خاصة بها، حتى لو كان ذلك يتطلب منها في الغالب العملَ طوال الوقت بدلاً من 8 ساعات في اليوم.

شخص مثل إيما لا يتناسب تماماً مع الفهم النموذجي لسوق العمل في الولايات المتحدة؛ فبصفتها عاملة مستقلة، لا تُعدُّ إيما مرشحة مثالية لقوائم الوظائف المتاحة. ولكن مع وجود ستة عملاء قابلين للزيادة، هي بالتأكيد لا تُعد عاطلة عن العمل، ولا ترى نفسها مطلقاً أنَّها ستعود إلى العمل لدى شخص آخر. 

تقول إيما: “لقد أتاح لي عملي الكثير من الوقت للتفكير واتخاذ قرارات مستنيرة بصورة أفضل مما كنت سأفعله لو تعرضت لضغوطات من فريق الإدارة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ القلق من الاعتماد على الآخرين للحصول على دخل ثابت قد ولت منذ فترة طويلة. لقد عانيت من اضطراب ما بعد الصدمة من الأدوار الوظيفية السابقة؛ حيث رأيت عاملين يُطردون فجأة، وهو ما حصل معي شخصياً”. 

تستشهد إيما بذلك بحالة عدم الاستقرار الذي تعيشه الشركات الناشئة، والتي ينجذب إليها الكثير من العاملين من أصحاب الياقات البيضاء من الجيل زد وجيل الألفية.

الاحتراق الوظيفي
الاحتراق الوظيفي

إنَّ الاحتراق الوظيفي حالة شائعة في الشركات الناشئة؛ فقد استقال المهندس كوري جابريلسن – 30 عاماً – من وظيفته كموظف ثانٍ في شركة ناشئة تعمل في مجال التكنولوجيا الزراعية في شهر إبريل. لقد كانت مطالب السفر شديدة؛ فقد أمضى 14 يوماً متواصلاً في زيارات ميدانية للإشراف على المعدات الروبوتية في المزارع، بمتطلبات وظيفية يصفها “باللامنطقية”. بعد عامين من العمل، كان مستعداً ليأخذ استراحة. ولعدة أشهر بعد استقالته، قال إنَّه “لم يفعل شيئاً”، حيث اكتفى بالتعافي من الاحتراق المهني.

والآن، يقضي أيامه في تداول خيارات الأسهم، ويدير حساب “بوت” على تويتر يتتبع أسعار عملة الإيثيريوم، ويستثمر في العملة المشفرة. وعلى الرغم من أنَّه لا يصف نفسه بأنَّه أكثر سعادة الآن – فهو يفتقد التفاعل الاجتماعي الذي يوفره العمل المكتبي – فإنَّ مزاجه أكثر “حيادية” يوماً بعد يوم، ويتطلع إلى بناء وجوده ككيان مستقل يمكنه فعل ما يريد وقتما يريد. 

يقول كوري: “ليس لدي ضغط وظيفي بالمقارنة مع ما كنت أقوم به”. إنَّه لا يعمل بدوام كامل، وليس لديه مخاوف مالية، وذلك بفضل مدخراته واستثماراته وأرباحه التي حققها من العملات المشفرة. “هدفي ليس العودة إلى العمل تحت إمرة مدير”، يقول كوري.

يتوقع خبراء الاقتصاد أنَّ “الاستقالة الكبرى” قد بدأت لتوها، خاصة بالنسبة للجيل “زد” والعاملين من جيل الألفية الذين يتمتعون بمكانة جيدة تؤهلهم إيجاد طرائق جديدة لكسب المال؛ حيث استقال زميل سابق لكوري في اليوم نفسه الذي استقال هو فيه، وانتقل منذ ذلك الحين إلى أمستردام. كما تقول كل من إيما وويتني إنَّ العديد من أصدقائهم سعوا للحصول على مشورة منهما بشأن كيفية الابتعاد عن العمل المكتبي لثمان ساعات في اليوم. 

تحذر سارو من أنَّه ما لم تعمل صناعة المطاعم على إدخال تغييرات جذرية في بيئة عملها وطريقة تعاملها مع العاملين، فإنَّ المزيد من العاملين الشباب في المجال الخدمي سيختارون صحتهم العقلية على حساب المال. وبدون استثمار حكومي كبير في رعاية الأطفال، ستعطي الأمهات الشابات الأولوية لعائلاتهنَّ. 

في الختام

مهما كانت دوافعهم، فإنَّ العاملين الشباب من ذوي الياقات الزرقاء ومن ذوي الياقات البيضاء على حد سواء، يجدون أنفسهم أكثر سعادة – وأكثر استقلالية. وبالنسبة إلى ويتني، ساعدها التغيير على بدء حلمها في إيجاد حياة مهنية وشخصية متوازنة ومرضية، والتي تصبح أكثر “روعةً” مع كل لقمة جيليه تتناولها – على حدِّ تعبيرها.

المصدر

Shares

مقالات ذات صلة

أسئلة هامة لمقابلة إنهاء الخدمة (مع الإجابات)

ماذا تفعل عندما تكره وظيفتك؟

6 طرق للتوقف عن التعامل مع الأشياء بشكل شخصي

error: Content is protected !!
We use cookies to improve your experience on our website. By browsing this website, you agree to our use of cookies.

تسجيل الدخول

إنشاء حساب

كلمة سر منسية